في كل عام يتكرر نفس السؤال لتشابه الحال ، وكثرة القيل
والقال ، وانعدام الأفعال ، والسؤال هو " عيدٌ ... بأي حال عدت ياعيدُ"
، مع أن الصواب أن يسألنا العيد هذا السؤال ، ويستفسر عن أحوالنا هل تبدّلت منذ
آخر زيارة له ، لأنه يعي تماماً أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ،
وأنه سبحانه إذا أراد بقومٍ سوءاً فلا مردّ له ، وأنه لن يرفع عنّا الذل الذي
سلّطه علينا حتى نعود .
العيد ببساطة هو حفل تكريم المتفوقين في رمضان ، تكثر
فيه الابتسامات الضريرة ، وحدها ابتسامة المتفوقين في رمضان هي التي تجذب أنظار
الحضور وعدسات "المهنئين" ، ووحدها فرحة المتفوقين في رمضان هي الحقيقية
بين كومة الأفراح الزائفة هناك والتي انبنت بناء على اكتظاظ المكان بالفرح لا أكثر
، وبمجرد أن ينفض الجمع يزول ذلك الفرح الزائف وتعود "ريمة" المقصرين
لعادتها القديمة .
اولئك المتفوقون علموا بأن العيد لا يكون باللبس الجديد
، وإنما العيد حقّا لمن خاف الوعيد ، وعلم أن السفر بعيد ، وأن التقي هو السعيد ،
وأن الله يعطي من الدنيا ما يشاء لمن يريد ، ولا يعطي الآخرة إلا لمن ارتضى من
العبيد ، فطمعوا من فضل ربهم بالمزيد .
تختلف الأعياد باختلاف المكان والزمان والحدث والأشخاص ،
فلكل قوم عيد ، بل قد يكون لكل شخص عيد ، وعندها يحق للمرء أن يخاطب الآخرين فيقول
: لكم "عيدكم" وليَ "عيد" .
في سوريا حين نستعد لعيدنا بجديد الثياب ، يستعدون هم
لعيدهم ببيض الأكفان ، فهذا هو عيدهم الحقيقي حين يزفون إلى قبرهم ويتحصلون مراتب
الشهداء ويحيون في الآخرة حياة السعداء ، وحين يكون عيد أطفالنا لايكتمل إلا بلعبة جديدة ، يكون همّ اطفال سوريا في عيدهم
أن يقضوه في حضن أمّهاتهم وآباءهم في مكان آمن من رصاصات الغدر وقنابل البطش ، فهم
والله عن عيدنا في شغل ، فحقّ لهم أن يقولوا : لكم "عيدكم" وليَ
"عيد" .
في بورما حين نستعد لعيدنا بابتسامات وأهازيج العيد ،
يستقبلون عيدهم بصراخ وعويل ، وبكاء ليس له مثيل ، فلربما لا تغيب عليهم شمس عيدهم
وهم أحياء ، وليس لهم تهمة سوى "توحيدهم" الله عز وجلّ ، وحين يلهو
أطفالنا بالمراجيح ، تتأرجح جثث كبارهم على حبال المشانق ، وتتأرجح أحلام صغارهم
ميتة على حبال اليتم ، فهم والله عن عيدنا في شغل ، فحقّ لهم أن يقولوا : لكم
"عيدكم" وليَ "عيد" .
هنا في بلدي حين يفرح الكثيرون بقدوم العيد ، ويعدّون له
العدّة بدءاً من جديد الثياب وانتهاءً برزم العيديات ، يقبع في تلك الزوايا
المظلمة أناس يرشدنا إليهم أنينهم المتواصل حيث لا أضواء تسلّط عليهم ، ولا يعلم
بمدى ما يقاسونه إلا الله ، أطفالهم يحتضنون الحرمان ، ويتوسدون القهر ، ويلتحفون
بالأسى ، فلا ثوباً جديداً يفرحهم ، ولا لعبة جديدة تؤانس وحشتهم ، يلتفتون لكل
صوت عالٍ لعلّه صوت رحيم ، حالهم كحال "تأبّط شرّاً" حين قال :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوّت إنسانٌ فكدت أطيرُ
يبيعون أحلامهم على الأرصفة وأمام أبواب المستشفيات وفي
أحضان الدوارات ، ويبعيون أيام عمرهم مقابل لقيمات يقمن اصلابهم ، لم تثنهم شمس
حارقة ، ولا رياح مؤذية ، يستمدون قوتهم من قوة ارتباطهم بأرضهم ، يعلمون أن الكسب
الحلال يعلي منازلهم ويعلي ذكرهم ، يقاومون بكل ما أوتوا من قوة ثورات التمني التي
يفتعلها الفقر والعوز فتثور على تلك الأيدي القصيرة والعين البصيرة وكأن ابن الذيب
قصدهم حين قال :
ثورة تمنّي فعّلتها الهواجيس
ثارت على قلّة كفاءة يدينه
يجمعون همّ اليوم فوق همّ الأمس على أمل ألا يباغتهم
غدهم بهمّ جديد ، شبابهم يعملون في الأسواق ولا يخرجون من أعمالهم إلا حين يقبل
جباههم ضوء فجر العيد ، وأطفالهم يستعدون ليوم شاقّ من العمل في بيع ما يتيسّر لهم
بيعه في يوم العيد ، فهم عن عيدنا في شغل ، ويسألون الله عزّ وجلّ أن يقترب موعد
عيدهم ، وها أنا ذا أسمعهم يرددون : لكم "عيدكم" ولي "عيد" !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق