2023/04/08

قفا نبكِ

 للفقد وجع كبير لا يشبهه أي وجع آخر، وأشد ما يوجعك هو إحساسك بأنك لم تعط من فقدت الاهتمام الكافي أثناء حياته ولم تشبع نفسك من الجلوس معه والاستئناس بحديثه فتلوم نفسك على تقصيرك في حقه وتفريطك في الاهتمام به.

ليتهم يخبروننا قبل الرحيل!، لعلنا نعوضهم عن فترات انقطاعنا عنهم أو نشرح لهم الأسباب على الأقل رغم يقيننا أنه لا سبب مقنع أبدا في إهمالنا أحبابنا.

ليتهم يعودون ليسمعوا ماذا قلنا عنهم بعد رحيلهم، ليتهم يعودون ليقرؤوا ماذا كتب عنهم بعد فقدهم، ليتهم يعودون ليروا تلك الدموع التي ذرفناها بعدهم واحتلت مكان الضحكات التي كنا نقابلهم بها في المرات القليلة في حياتهم، ليتهم،،،  ولكن لا أحد يعود من هناك.

لما مات أحد الأصدقاء قبل أيام وقفت على قبره طويلا وذرفت الدموع، بكيت وبكيت وبكيت،  كان بعض بكائي حزنا وكثير منه ندما لكن هيهات ينفع الدم، وجدتني دون أن أشعر أردد في نفسي "اللهم لا تجعل هذا آخر العهد واجمعني به في الجنة" وكأني كنت أريد أن أقابله لأعتذر عن كل شيء حتى عن عدم الرد على رسالة التهنئة بقدوم شهر رمضان والتي أهملتها تحت ذريعة زحمة الرسائل، وهي إلى الآن تظهر أمامي كل لحظة رغم زحمة الرسائل.

قبل سنوات توفي أحد الإخوة وكان محبوبا من الجميع ومني، لم تربطني به علاقة صداقة ومع ذلك أحدثت وفاته شرخا في داخي وأخبرتني كيف تكون قسوة الرحيل المفاجئ، لم أمهل نفسي كثيرا أسرعت بالتواصل مع كل الأصدقاء فزرت من أستطيع وهاتفت الآخرين حتى أولئك الذين يعيشون خلف الحدود أردت أن أخبرهم أني أحبهم وأنني مقصر في حقهم، لم أقلها لكني أجزم أنهم فهموها. ثم...؟! عدت إلى إهمالي وتقصيري مسليا النفس بعذر انشغالي.

في الواقع إن جل محاولات الاجتماع مع الأصدقاء القدامى - إن لم تكن كلها - تبوء بالفشل والواقع أننا نستسلم سريعا لهذا الفشل على اعتبار أن الجميع واقع في هذا التقصير والجميع لا يخلو من هذا الذنب وهذه سنة الحياة والحقيقة هي أنه لا أحد لديه الشجاعة لتعليق الجرس في رقبة وحش الأعذار لنجد لها حلا.

لا تنتظر موته صل في الحياة أخا

لا ينفع الدمع فوق القبر إن سكبا

أعلم أن صديقي رحل وأعلم أنه لن يعود ليقرأ وأعتذر، ولن يعود لأعوضه عن ذلك التقصير

بل أعلم أن صديقا آخر سيرحل فجأة ليخبرني أنني مارست معه ذات الذنب وسأعود لأبكي وأكتب.

لذلك... قفا نبك... على كل الراحلين

2023/01/11

ألا تصل متأخرا...

 يقولون في المثل "أن تصل متأخرا خير من ألا تصل" والحقيقة إن لي وجهة نظر مختلفة حول هذا الموضوع في ظل نطاق خاص ومحدد ربما يتبين للقارىء الكريم لو تكرم علي بقراءة هذا المقال حتى سطره الأخير.

كثيرا ما يتحجج المتأخرون في الحضور لأي مناسبة أو فعالية بترديد "أن تصل متأخرا خير من ألا تصل" فيقولونها مصحوبة بابتسامة عريضة وكأن الوصول كيف كان ومتى كان خير من عدم الوصول، ولكن الحقيقة أن هناك أشياء في الحياة عدم وصولها خير من أن تصل متأخرة لأن في وصولها المتأخر تترتب متاعب كثيرة ومصاعب متنوعة بل ربما يكون وصولها غير ذي منفعة.

وأكثر ما ينطبق عليه القول أعلاه الأحلام التي تتحقق متأخرة عن موعد انتظارها الطويل، والفرص التي تأتي حين لا يكون لك القدرة أو الرغبة في استغلالها، بل ربما تتسبب لك في هذه الحال بألم وصراع طويل مع نفسك فأنت إن تبعتها وحاولت استغلالها أتعبتك وأرهقتك ونالت منك، وإن تركتها فقد تكون فريسة لتأنيب الضمير على إضاعتها.

جاء أن أعرابيا عشق جارية وكانت تتمنع عنه ولا تأبه به فمرض بسبب ذلك وشارف على الموت، فقيل لها: لو أنك زرته وخففت عنه فما أصابه كان بسبب حبه لك،  فلما دخلت عليه قالت له: كيف حالك يا فلان؟! فأنشد يقول:

ولما دنا مني السياق تعطفت

عليّ وعندي في تعطفها شغلُ


أتت وحياض الموت بيني وبينها

وجادت بوصلٍ حين لا ينفع الوصلُ

فلم تك تلك الفرصة السانحة والحلم الذي تحقق متأخرا بذي بال عنده بعد أن تأخر عن الوصول في موعده المحدد.

وذكر الكاتب سلام شماع في كتابه عن العلامة علي الوردي أنه كان له حفل تكريم صادف أن يكون في وقت مرضه الذي أفضى به إلى الرحيل فأرسل شخصا ينوب عنه إلى الحفل وطلب منه أن يلقي على الحضور بيتا واحدا فقط،  وكان هذا البيت:

أتت وحياض الموت بيني وبينها 

وجادت بوصلٍ حين لا ينفع الوصلُ 


فليس شيء أجمل من يلتقي الحلم والرغبة والقدرة معاً

دمتم بخير