2012/04/27

هلا بَك ...


هناك في تلك البقعة "المتناحر" أهلها ، أنت لا تمتلك خياراً سوى السير في طريق رسمه لك الآخرون ، وإلا فإن جزاءك سيكون الإقصاء والإبعاد والطرد من رحمة "المكان" .
كل طرقهم تسير في "اتجاه جبري" لا خيار لك في اختيار طريق آخر غير ما يريدون ، فهم أصحاب المكان ، وأنت مجرد متكسب مرتزق ، إن أعطيت منها رضيت ، وإن لم تعطً منها أبديت السخط والامتعاض ، وتركت الولاء وبدأت بالاعتراض .
لا قيمة لجيمك أمام يائهم ، ولا اعتبار لحمرة شماغك أمام بياض غترتهم ، أما شعرك الطويل ، وبزمتك الفارهة ، وعقالك المايل ، فهما ليسا إلا مؤشر جنسية وعلامة ازدواجية ، ودليل نقص ولاء .
سياسة الإقصاء والرفض للآخر تلك والتي تمارس منذ فترة ، لم تخلق لنا إلا تناحراً جديداً يضاف إلى الكم الهائل من التناحرات التي نعيشها ، فالبعض ومع الأسف يريدك أن تصبح نسخة كربونية منه في كل شئ ، في كلامك وطعامك وطريقة ملبسك وعاداتك وتقاليدك ، ناسياً أو متناسياً اختلاف البيئة التي قدم منها أجدادك عن البيئة التي قدم منها أجداده هو ، وناسياً أو متناسياً أنه سرعان ما انصهر هو مع متطلبات حياته الجديدة بينما ظللت أنت صامداً في وجه عوامل تعرية حاولت أن تعريك عن بعض موروثاتك الثقافية وقد يكون سبب صمودك ذاك عائد لالتحامك وتماسكك مع  بعض من يغذون فيك مثل هذه الموروثات .
إن سياسة الإقصاء وعدم القبول بالثقافات المختلفة تلك أنتجت لنا جيلاً من الشباب يخجل من أن يتكلم بلهجته الموروثة التي لا يجد بأساً في أن يتكلم بها في بيته وديوانيته ، ويستعيض عنها بلهجة أخرى في السوق والعمل والمجتمعات العامة لا تمت لبيئته بصلة ، حتى إن البعض منهم ليضم أو يكسر آخر كلمة "شفته" بمعنى رأيته في مجالسه الخاصة تبعاً للهجته ، لكنه يضطر لفتحها مجبراً حين يخالط الآخرين حياءً أو خجلاً أو خشية الإقصاء وعدم القبول .
يجب على الجميع أن يعوا بأن اللباس والعادات واللهجات هي موروثات ثقافية تناقلتها الأجيال عبر الأجيال لا تخضع لجنسيات ولا لأوراق ثبويتة ، وأنها لدى البعض مصدر فخر واعتزاز وإن أرادها الآخرون مصدر تهكم وسخرية ، وأنها قد لا تتبدل بالكلية مع تطور الحياة وتقدمها ، أو فلنقل لا تتطور سريعاً من باب الدقة في العبارة ، وأن على الجميع أن يعوا بأن صغر مساحة المكان لا يعني عدم وجود اختلاف في اللهجات والهيئات والثقافات ، لا سيما في البلدان التي تعتبر بلاد هجرات ، فعلى الجميع أن يحترم ثقافة الآخر ولهجته ، وألا يحتم على الآخرين السير في طريق جبري هو يختاره ، وإلا فإن الهوة والفجوة بين شرائح المجتمع ستكون كبيرة وراب الصدع سيستحيل مستقبلاً .
عزيزي القارئ يامن وصلت إلى هذا السطر من مقالتي لك مني جزيل الشكر على تجشمك عناء القراءة ، واسمح لي أن أقول لك بلهجة شيباني "هلا بك " في مقالي ، واعذرني إن كنت تتوقعها "هلا فيك" .

2012/04/25

إفهام الأغبياء !


ومن جاهلٍ بي وهو يجهل جهله

ويجهل علمي أنه بيَ جاهلُ

المتنبي

محاولة إفهام الأغبياء ضرب من البلاء ، ونوع من العناء ، تستجلب الداء ، وتستوجب استعمال الدواء ، تلهيك عن مواصلة الطريق ، وتجعلك في بحر الجدال البيزنطي كالغريق ، تتعلق منه بقشة رجاء أن يفهمك ، وتقاسي من علو موج كلامه السئ إذا كلّمك فكلَمك ، ولا يابسة بالقرب ، ولا يخلصك منه سوى رحمة الربّ ، تصغي في البداية لكل ما يخرج من فيه ، حتى تختم الحوار معه بقولك : لقد آن لأبي حنيفة أن يمدّ قدميه . !

نخطئ خطاً كبيراً حين نقضي وقتاً طويلاً في إفهام بعض الجهال وأهل الغباء بما نريده ونصبو إليه ونسير في اتجاهه ، ولكننا نعود منهم بخفي حنين دائماً ، ونتذكر حينها قول الإخوة في مصر : "علّم في المتبلّم يصبح ناسي" ، لأن المتبلًم لن تجني من محاولة تعليمه وإفهامه سوى التأخر عن المضي قدماً نحو هدفك ، فدعه ولا تكثر عليه التأسف ، وسلّم له جدلاً بكل ما يقول ، ثم أعطه ظهرك ودعه يفرح في قرارة نفسه ، ويرفع علامة النصر ظنّاً منه أنه قد انتصر نصراً مبيناً ، بينما تواصل أنت السير بخطى ثابته تحمل همّ قضيتك ، وتجعل الوصول إلى نهاية الطريق مرادك الأول لا غير ، ولسان حالك كما قال المتنبي : "نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا" .

إن محاولة إقناع كل مخالف ، وتعليم كل جاهل ، وإفهام كل غبي ، ستبطئ من سيرك على الأقل ، هذا إن لم توقفك عن المسير أصلاً ، فكم سئمنا من الجدال العقيم في إفهام بعض المخالفين في بعض القضايا ، وكم تعبنا من حمل السيوف في ساحات الفكر ، وإذا بنا في مؤخرة الركب ، فأصبحنا كالمنبتّ الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى !

في عصر أحد الملوك الأغبياء ، كان هناك حمار – أجلكم الله – لا يمت لجنس الحمير بصلة إلا في الاسم فقط ، وصادف يوماً أن شاهد الحمار قطعاناً من الأبقار تجري بسرعة هائلة ، فاستوقف الحمار بقرة وقال لها : ما الخطب ؟! فأجابته البقرة بأن الملك الغبي قد أصدر أمراً بقتل جميع الأبقار في البلد ! ، عندها جرى الحمار بأقصى سرعة ليظفر بحياته ، فاستغربت منه البقرة وسألته : ولماذا تجري وأنت حمار ولست بقرة ؟! ، فأجابها بحكمة : "عاد تعال فهم الملك الغبي إني حمار مو بقرة" !!

لقد عرف ذاك الحمار – أجلكم الله – أن محاولة إفهام حقيقة الأمر لذلك الملك الغبي قد تودي بحياته ففضل الهرب على أن يجعل حياته معلقة بشعرة إفهام غبي .

خلاصة القول : إنك إن أكثرت التوقف في محطات الجدال العقيم ، واستراحات إفهام الأغبياء ، وأضعت الأوقات في الرد على كل مسيء ، فلن تصل إلى هدفك المنشود في الوقت المحدد ، وربما لن تصل إليه أبداً .

2012/04/17

خارطة طريق !


ولكنّه طال الطريق ولم أزَل

أفتّش عن هذا الكلام ويُنهَبُ

المتنبي

بعض الأشخاص الذين يوكل إليهم حل المشاكل الكبيرة هم في حقيقة الأمر لا يمتلكون حلاّ ، وغاية ما يجيدونه هو التحذيرات المتواصلة من تفاقم المشكلة وتعاظم حجمها ، مثلهم كمثل "صويلح" في درب الزلق والذي كان دوره ينحصر في أن يصيح بأعلى صوته محذراً أباه بجملة "ياك الذّيب" !

"صالح" ذاك لا يمتلك حلاّ أو قل لا يمتلك عقلاً يمكنه من مواجهة مشكلة ، "وصالح" هذا لا يمتلك حلّا أو قل لا يمتلك إرادة لحل مشكلة باتت تشكل هاجس قلق للدولة ، وربما ينحصر دوره في ترديد جملة "ياك الذيب" كلما تفاقمت المشكلة وعظمت ! .

بعد جولة سياحية خليجية ، عادت خارطة الطريق من جديد ، خارطة ماذا ؟! ولأي طريق ستقود ؟! لا أحد يعلم إلا الله ، والناس الذين ترتبط حياتهم بحل هذه المشكلة جميعهم يركبون حافلة الظلم التي يقودها "صالح" ويوجهون سؤالاً واحداً وبصوت عالٍ لقائد الحافلة " سألتك حبيبي لوين رايحين؟!" ، فيجيبهم بخبث : "دع لنا القيادة وتمتع بالمعاناة" ! .

تعود خارطة الطريق من جديد ، لتخبرنا بأن كل الطرق تؤدي إلى "لا شئ" ، فقد أصبحنا كمن يسأل ويقول : "أوتوبيس نمرة كم بيودي على فين؟!" ، لا شئ يدعو للتفاؤل البتّة ، إلا إيمان جازم بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وأن كل ما يخطط له القوم لن يخرج عما كتبه الله عز وجل .

تعود خارطة الطريق من جديد ، لتخبر البدون بأنكم لا زلتم في بداية الطريق الذي وضعت خارطته وأن "سالفتكم مطولة" ، فافرحوا بما أوتيتم من "تموين" ، ولا تسألوا عن أشياء إن تبدَ لكم تسؤكم ، وارفعوا أكف الضراعة ليل نهار ورددوا : ما لنا غيرك ياالله ، ومارسوا حياتكم بشكل طبيعي ، فإن أعظم نصر تحققونه اليوم أن تعيشوا بين أناس يتمنون لكم الممات .

تعود خارطة الطريق من جديد ، لتخبر الجميع بأن من سمح لغيره أن يرسم له خارطة طريقه فليتحمل العواقب وليتحمل الحفر التي ستمر بها حافلته والجبال التي ستصعدها والأودية التي ستنزلها ومستنقعات الذل والمهانة التي ستغوص فيها ، لا سيما إذا كان الذي رسم تلك الخارطة ليس له من الأمر شئ سوى أن يصيح بأعلى صوته كلما عظمت المشكلة ياطويل العمر "ياك الذيب" !

2012/04/13

عزيزي الطفل البدون ... لا تقرأ !


 حين تواجه أحداً ويخبرك بأن حق التعليم في الكويت مكفول للجميع ، فقل له وبالفم المليان : أنت تكذب يا عزيزي ! ، إلا إن كان يرى أن أطفال البدون غير داخلين في قوله "الجميع" ، فعندها قد يكون لقوله ذاك وجه ، ولكن بالتأكيد سيكون له هو ألف وجه وألف قناع .

عزيزي الطفل البدون ، أنت ممنوع من التعليم لحين إحضارك شهادة ميلاد تحرم منها قسراً ثم يطلب منك إحضارها لتنال حقك في التعليم ، شهادة ميلاد تستعمل كإثبات لولادتك في مكان ما في زمن ما ، والقوم هنا جعلوها إثباتاً لآدميتك .

عزيزي الطفل البدون ، من قال لك أن مع حمد قلم ؟! ، فليس مع حمد لا قلم ولا بطيخ ، أو عفواً أعتذر .. فقد يكون مع حمد بطيخ ورقي وخلطات معطرة وبنك ، لكن من الصعب أن يكون معه قلم ! .

عزيزي الطفل البدون ، من قال لك أن تردد "أنا آكلُ وأشربُ" ؟! فهذه الجملة يجب أن تحفظها لتستعملها في المستقبل ، حين تطاردك دوريات الشرطة بسبب بيعك للرقي والخضار على الأرصفة ، ثم يلقون القبض عليك ويعاملونك معاملة كريمة ، فهم لهم اليد "الطولى" في الإكرام ، وحين يسألونك عن سبب فعلتك أجبهم بقولك : "لكي آكلُ وأشربُ"

عزيزي الطفل البدون ، ليس من الضروري أن تتعلم ، تكتب ، تقرأ ، فكل الأعمال التي ستقوم بها مستقبلاً لا تحتاج منك إلى كل هذا ! ، هي فقط تحتاج منك إلى لسان يجيد الكلام ، وعقل يجيد العمليات الحسابية البسيطة ، وعينين يتمكنان من رؤية رجال البلدية ويميزانهم عن باقي الزبائن ، ورجلين لا يخيبان ظنك إن أطلقت لهما العنان في سباق مع "القرادة" !

تستغرق قضية البدون سنوات طويلة حتى تتحرك إلى الأمام قليلا ، لكنها لا تحتاج لأكثر من قرار طائش من الجهاز المُرّ...كزي قد لا يصيب لكنه يدوش بالفعل ! ، هي حرب نفسية ، واستمرار لعمليات ضغط بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي ، ومحاولة اختبار صبر شارف على النفاد أو قل نفد بالفعل ، فمن المستفيد ؟! .

أطفال البدون اليوم هم الورقة التي أراد الجهاز المُرّ .. كزي أن يلوح بها كوسيلة ضغط على الآباء من أجل شراء جوازات من دول أخرى ومن ثم تعديل أوضاعهم في الكويت ، كما لوّح قبل فترة بسيطة بورقة الآباء وطردهم من وظائفهم العسكرية لكي يثني الأبناء عن مواصلة المطالبة بحقوقهم في ساحة تيماء ، وفي كلا الحالتين ستبوء محاولاتهم بالفشل إلا من نزر يسير قد سئموا حياة الذل والهوان ، قد يقومون بتعديل أوضاعهم مكرهين ، قارنين ذلك بدعوة مظلوم ستسري بليل ولن تخطئ هدفها إن عاجلاً أم آجلاً .

عزيزي الطفل البدون ، حين تكبر وتقف في الصف خلف الإمام في الصلاة ، وتسمعه يقرأ قول الحق تبارك وتعالى (إقرأ باسم ربك الذي خلق) ، فقل : هم قالوا لي "لا تقرأ" ياربّ .

2012/04/10

بدون مبدعون


"بدون مبدعون" ... هذا هو عنوان الحملة التي أطلقها شباب البدون في تويتر وهو في الوقت ذاته عنوان الندوة الثالثة من الندوات التي تقيمها مجموعة "29" وسيحاضر فيها الأديب المبدع البدون دخيل الخليفة مساء الأربعاء الموافق 11/4/2012 .

ليلة البارحة اكتظ تويتر بأسماء المبدعين البدون ، كانت الأسماء كثيرة ومتميزة ، وفي مجالات عدة ، بعض تلك الأسماء لا زال يحتفظ ببدونيته ، وبعضها تركها رغماً عنه بعد أن ضاق ذرعاً بعمليات التطفيش المتلاحقة منذ فترة ما بعد الغزو ، الأسماء كانت كنجوم لامعة ، أنارت سماء تويتر بشكل عام ، وأنارت سماء البدون بشكل خاص ، والذين عرفوا أن كونهم بدون لا يعني خلوهم من الإبداع ، وأن وضع العراقيل أمامهم لا يعني أنهم لا خيار أمامهم سوى الوقوف والتلويح لركب السائرين ، وأن حالة الفقر والضعف والعوز قد تكون دافعاً كبيراً لهم لتحقيق المزيد والوصول لأهدافهم ، وأن كأس وجود الخصوم يمكن النظر إلى الجزء الممتلئ منه ليحفزهم على بذل المزيد ، فخصومنا أيضاً لهم فضل علينا !!

ما أعجبني في هذه الحملة ، انتقال بعض شباب البدون من ذكر أشخاص معينين هم بلا شك مبدعون ، إلى ذكر صفات معينة في شباب البدون يعتبر كل من اتصف بها مبدعا في مجاله صغر أم كبر ، من ذلك كل عسكري بدون حمل السلاح في الحروب العربية وفي حرب تحرير الكويت فهو بدون مبدع ، وكل أم أو أب جاهدا من أجل تربية أولادهما وتوفير لقمة العيش لهم رغم الحرب الشعواء التي وجهت ضدهم هم أيضاً بدون مبدعون ، كل شاب بدون تغرّب رغم ضيق الحال ليكمل دراسته وعاد ومعه شهادته فهو بدون مبدع ، وكل شاب بدون يبيع الخضار على الرصيف في لهيب الصيف الحارق من أجل أن يعف نفسه عن سؤال الآخرين هو بدون مبدع ، وكل شاب بدون لم تثنه كلمة "عيب" عن العمل في أي مجال شريف ليوفر حاجيات أولاده من عمل في المطاعم أو الجمعيات أو المحال والمجمعات التجارية فهو بدون مبدع ، وكل شاب سعى في خدمة قضيته عبر كلمة أو قصيدة أو حضور ندوة فهو بدون مبدع ، وكل شاب لم يستطع فعل كل ذلك لكنه وقف وصفق لإخوانه البدون المبدعين تشجيعاً لهم وتحفيزاً لهم فهو بدون مبدع .

قبل فترة كتب الأستاذ محمد الوشيحي مقالاً انتقد فيه شباب البدون لأنهم ركنوا إلى البكاء وتوقفوا عن اللحاق بركب المبدعين من أبناء جلدتهم ، وقد ردّ عليه بعض المبدعين البدون في وقته ، ولكنني أرى أن هذه الحملة هي أبلغ رد على العزيز أبي سلمان ، فقم أبا سلمان وامشِ في بساتين البدون ومتّع ناظريك بالنظر إلى هذه الورود التي ضاقت بذكر أسمائها جنبات تويتر ، وصفّق لهم إعجاباً واعترف لهم بأنهم مبدعون وزيادة ! ، وهذه الزيادة اكتسبوها لصبرهم وجلادتهم في تجاوز كل العراقيل التي وضعها العنصريون في طريقهم .

"بدون مبدعون" حملة جميلة أسعدتني وسأل الله العلي القدير أن يجزي القائمين عليها خير الجزاء ، كما أرجو من بعض الأسماء الجميلة التي ذكرت في الحملة أن ترد الدين لشباب البدون الذين افتخروا ورفعوا رأساً بهم لأنهم يحملون معهم ذات الهم ، وأن يقوموا بنصرة قضية البدون بكل ما أوتوا من قوة ، فالظنّ بهم حسن ، والآمال المعلقة عليهم كبيرة ، وكلمة منهم تعادل الكثير بلا شك مما يقوله المغمورون أمثالنا ، فهم نجوم لامعة رفعها إبداعها ، ولم يخفضها عدم امتلاكها لجنسية .

2012/04/06

سعدون ... واللي مضيع وطن !


في الصغر ، كنا نستمع لسعدون جابر وهو يغني موّالاً "اللي مضيع وطن وين الوطن يلقاه ؟!" ، كنا صغاراً نستمع لما يقول ونتأثر بكلماته الحزينة دون وعي كامل وفهم جيد لما يعنيه فقدان وطن ، وذلك لسببين ، أولهما : صغر سنّنا وانحصار مفهوم الوطن لدينا في بيت ومدرسة وتحية علم ونشيد وطني وبابا جابر ، وثانيهما : ضيق الهوة بين بدون ذلك الوقت وبين سلبهم حقالمواطنة ، فقد كانت الفروق بسيطة لا يعيها إلا بعض من اكتوى بنارها في ذلك الوقت .

 تضيع منّا الأوطان في كومة قش الحرمان ، نحاول جاهدين البحث عنها فتشغلنا عنها أسهم الأعداء سهم تلو سهم ، فنصبح كحال القائل :
لو كان سهماً واحداً لاتقيتهُ
ولكنه سهمٌ وثانٍ وثالثُ
وتنكشف على إثر ذلك العورات بسبب غلاء النسيج الاجتماعي الذي غطى عورات الوافدات من زوجات الكويتيين وقصر عن تغطية عورات أبناء الوطن ، ويطفو الحسد على سطح النفوس ، ويغلف بغلاف الأمانة والخوف على اللُّحمة الوطنية بضم اللام والصحيح أنهم قصدوا فتحها ،  لكنهم خافوا أن ينكشف الأمر ، يجعلون من الوطن بقالة يساومونك على ما فيها مقابل أن تتنازل عن حقك فيالانتساب إليه ، يحاولون إغراءك بعرض من الدنيا قليل ، ليثبتوا للجميع أنك إنما تجري خلف مال لا خلف آمال ، وأنك تقنع بالفتات وتنسى ما من أجله ترخص الأعمار وتطلب الوفاة .

خمسة أجيال تعاقبت ، ولا زلنا نحفظ قول سعدون جابر "اللي مضيع وطن وين الوطن يلقاه" ، ولا شئ تغير ! ، فلا زلنا نبحث ، ولا وطن بالقرب ! ، الشئ الوحيد الذي تغير منذ ذلك الوقت ، أننا كنا نستمع لسعدون ونحن نعرف أن سماع الأغاني حرام ، أما الآن فقد أصبح الاستماع لسعدون بالإضافة إلى كونه حراماً ، قيداً أمنياً ، ومؤشر جنسية في عرف الجهاز المركزي ، أي ظلمات بعضها فوق بعض ، ولا زلنا نبحث في كومة قش الحرمان بلچي ريحة وطن !.

افعلها وخلصني !


أبشع شعور يمرّ على الإنسان ، هو شعوره بعدم الرغبة في الحياة ، وتمني وضع حدّ لمعاناته في هذه الحياة ، فهو في نظره لم يعد قادراً على تحمل المزيد من الطعنات والجراح ، ولا على مزيد من سياط الجلادين الذين يستمتعون بصوت صراخه في كل مرة يهوي بها السوط على ظهره ، حينها يشعر بأن مماته خير له من حياته ، وأن باطن الأرض خير له من ظاهرها ، ويصبح لسان حاله كقول القائل :
إذا أبصرت قبراً من بعيدٍ
وددت لو أنني مما يليه
لا تستغرب عزيزي القارئ ، ولا تشعر بأن حروفي السابقة محبطة ! ، فقد جاء في السنة "لا تقوم الساعة حتى يمرّ الرجل بقبر الرجل فيقول ياليتني كنت مكانك" ، ولكن السنة المطهرة جاءت بما يضع حدّا لهذا التمني بالنهي عنه وتغيير صيغة الدعاء وتعليقها بالخيرية التي لا يعلمها إلا الله وحده ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه ، فإن كان لا بد فاعلا فليقل  : اللهمّ أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفّني إذا كانت الوفاة خيراً لي ) .
تُرى كم عدد الذين يعيشون بيننا اليوم و يقولون حين يمرّون على القبور ياليتنا كنّا مكانكم ؟! ، وكم عدد الذين إذا دخلوا المقابر تمنوا لو استطاعوا تبديل دعاء دخول المقبرة إلى "ليتنا كنّا السابقين" !
في عرف الفرسان من رعاة البقر ممن يتحلون بمروءة الخصومة بحسب أعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ، حين يجد خصمه يتعذب من ألم جراحه ، ويموت رويدا رويداً ، فإنه يعاجله برصاصة يطلقون عليها مسمى "رصاصة الرحمة" من وجهة نظرهم ، تخلصه من تلك الآلام وتضع حدا لعذابه الدنيوي وتأخذه في أقرب رحلة إلى غياهب الموت ليواجه مصيره ، ذاك هو عرف الفرسان لديهم ، وتلك هي عاداتهم في التعامل بشرف مع الخصوم فهم لا يتلذذون برؤيتهم يتعذبون حتى لو كانوا يمقتونهم أشد المقت .
في بلادنا ، عانى البدون الأمرين ، فمن وعود كاذبة ، إلى إهانات متكررة ، ومن لعب بمشاعرهم عبر وضعهم على لا ئحة الإنتظار على مدى خمسة عقود ، إلى رقص على جراحاتهم عبر تخوينهم تارة والطعن في أنسابهم تارة أخرى ، حتى أصبحوا يتمنون ممن فعل بهم الأفاعيل أن يكون لديه من المروءة وشرف الخصومة ما يمتلكه رعاة البقر ، حتى يطلق عليهم رصاصة رحمة تخلصهم من عذابهم ، بدلا من أن يتلذذ برؤيتهم يقاسون العذاب ، ويضع حدّا لقصة انتظارهم الحزينة ، ففي كثير من الأحيان يكون انتظار العذاب عذاباً أشد وقعاً على النفس من العذاب نفسه ، فقد جاء في أهوال يوم القيامة أن الناس من هول ما رأوا قبل الحساب وفصل القضاء يأتون إلى الأنبياء واحدا واحدا يطلبونهم الشفاعة عند ربهم ليخلصهم من هذا العذاب ويقضي بينهم إما إلى جنة وإما إلى نار !
"افعلها وخلصني" قالها جسّاس بن مرة ، "افعلها وخلصنا" يقولها البدون اليوم لكل من يتسبب في مزيد من المتاعب في حقهم ، فألم الانتظار الذي رافقهم لمدة خمسة عقود جعل كل ما بعده هينا في عيونهم ، فاقضوا بينهم إما إلى جنتكم وإما إلى ناركم ، وأطلقوا عليهم رصاصة الرحمة ، وافعلوها وخلصوهم خلصكم الله من كل شرّ .