كعادة الضيوف
المحبوبين والمقربين إلى النفوس يأتي "رمضان" سريعاً دون أن تشعر به ويغادر
سريعاً دون أن تشعر به فهو لا يريد أن يسبب لك مزيد إزعاج ، وكعادة الأصدقاء غير
الثقيلين فهو لا يزور إلا غبّا لعله أن يزداد حبّاً ، يطلبك أن تحسن ضيافته وأن
تكرمه بجميل اللقاء فتأخذه بالأحضان وتضرب على ظهره بكفك وتقول له : إننا والله لك
لمشتاقون ومنذ أن رحلت عنّا آخر مرة للقياك منتظرون ، لتسمعه يقول : (يا أيها
الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم "لعلكم تتقون"
) .
ثمّ أجلسه حيث
تشعر بأنه يليق به ذلك المجلس ، وليس أكرم له من أن تفتح له "ديوان"
قلبك ليجلس في "صدر" مجلسك فينشرح بذلك "صدرك" ، وتجاذب معه
بعدها أطراف الحديث ، فإن حديثه لا يمل ، ومستمعه لا يكلّ ، وكيف لا ؟! وهو كحامل
المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ، والأولى هي
الأقرب دائما فرمضان "كريم" ، فلا تردنّ عطاياه وهباته ففيه يصدق قول
الناس : "لا يرد الكريم إلا اللئيم" ، وبادره بالإكرام حتى تمتلكه
شاهداً حين تحتاج لشهود فمن عادة الكريم أنك إن أكرمته ملكته "إذا أنت أكرمت
الكريم ملكته" ، ورغ إلى "نفسك" لتجيء له "بعمل سمين"
لعله يبيض وجهك أمامه ، وحاول إصلاح ما بينك وبينه وقل له سرّا : ليت الذي بيني
وبينك عامرٌ ، ثم أردفها بأخرى علانية : إذا صحّ منك الودّ فالكل هيّنٌ ، لعلك أن
تكون حينها قد بادرت باللحاق بركب المكرِمين المكرَمين ، فلا يغرنك بعدها
المتخاذلون ، الذين هم في "تفريطهم" يعمهون ، وعلى عهدهم القديم قبل
رمضان باقون ، وكأنهم لم يسمعوه وهو يقول : (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام
كما كتب على الذين من قبلكم "لعلكم تتقون")
لا ترضَ منه
بالقليل ، وأشبع منه نهمك على الخير ، وكن معه كما لم تكن عليه قبله ، فإنه إن ذهب
قد لا يعود ، أو قد تكون أنت حينها برفقة الدود ، تتمنى لو عدت إليه يوماً واحداً
لتكرمه حق إكرامه ، وتحسن إليه غاية الإحسان ، لتظفر منه بالأعطيات الجزال والتي
أعلاها العتق من النيران والفوز بالجنان حين يبكي المضيعون ، ويتحسر اللاعبون
اللاهون ، ويعض على أيديهم الظالمون ، لأنهم غفلوا عن قوله : (يا أيها الذين آمنوا
كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم "لعلكم تتقون") .
ثم اعلم أنه ضيف
خفيف لا يطيل المقام يعلم أن فراقه "عيد" حقيقي لمن خاف الوعيد ، ومزيف لمن
حصر معنى العيد في اللبس الجديد ، وأنك لو أقسمت عليه أو أغريته بطول المكث فلن
يستجيب لك ، فهو عبد مأمور ، يأتي في وقت محدد ويغادر في وقت محدد ، ولا شيء عنده
أفضل من أن تحسن وداعه كما أحسنت استقباله ، وأن تحتضنه في الآخرة كما احتضنته في
الأولى ، وأن تطبع على جبينه قبلة مفادها : إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا
على فراقك يا "رمضان" لمحزونون ، لتستمع إليه يردد وهو يغادر (يا أيها
الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم "لعلكم تتقون")
.
ومضة :
ليكن شعارك في
رمضان هذا العام مختلفاً ، وردّد مقولة الصحابي الجليل أنس بن النضر حين قال يوم
بدر : والله ليرينّ الله ما أصنع ، فقل كما قال ودع الله عز وجل يفرح بصنيعك وهو
سبحانه الغني عنك .
قبل الختام :
حين تمتليء مائدتك
بأنواع شتى من الأطعمة والأشربة ، تذكر أن بالقرب منك من إخوانك البدون من لا يجد
عشر ما تجد ، وأن الحكمة من الصيام الإحساس بشعور الفقير والظفر بعطية التقوى ،
فتفقد حال إخوانك البدون ، وردد (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب
على الذين من قبلكم "لعلكم تتقون")
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق